قبل نشر مقالته القادمة ( مدارات) في جريدة الحياة الخميس القادم ، وافق أدونيس بكل محبة على أن أنشر مقتطفاتٍ منها هنا على صفحتي ...
يكتب أدونيس
//
" الخراب ": تلك هي الكلمة الأكثر قدرةً على وصف الحالة الراهنة في العالم العربي. غير أنّه ليس " الخراب الجميل " الذي تمنّيتُه في قصيدة " مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف " في سنة 1971. ذلك أنّ هذا الخراب لا يؤسّس لتحرير
الإنسان من مختلف العبوديّات، وإنّما يغامر، على العكس، بالتأسيس لعبوديّاتٍ أخرى أشدّ هولاً.
إنّه خرابٌ يعلِّم الإنسانَ قتلَ الإنسان: قتله مباشرةً، أو بالتخطيط، أو بالشورى، أو بالديمقراطيّة، أو بالثورة، أو بالنظام.
ومن أجل تغطية هذا القتل بحرير الإيمان والطمأنينة، يتمّ تسييس الدين وتديينُ السياسة على نحوٍ قد لا نجد له مثيلاً في التاريخ كلِّه. تسييسٌ يمحو إنسانيّة الإنسان محوِّلاً إيّاه إلى مجرّد آلة، لا يفرِّق بين الفراشة والوحش، وتديينٌ لا يميِّز بين الإله والآلة. والنتيجة في الحالين تديينٌ للصراع ضدّ خصومٍ صاروا " أعداء "، وتديينٌ للفتك والقتل، وتديينٌ للنهب والسرقة، وتديينٌ لتهديم الأملاك وإحراق الشوارع والمؤسّسات والأوابد، وقصف الأبرياء المسالمين. إنه باختصار: تديينٌ للإبادة على جميع المستويات، وفي جميع الاتّجاهات.
إنها ديكارتيّة جديدة، وكوجيتو جديد:
" هل أنا مؤمن؟ إذاً، يجب أن أبيد من يخالفني ومن لا يحالفني، وأن أستأصل كلّ ما يمتّ إليه بأيّة صلة ".
......
مسرحٌ هي الحياة العربية، اليوم: " مسرحُ قَسْوةٍ " ورعبٍ في آن. بينهما فرَحٌ خفيفٌ وعابرٌ؛ فرحُ الأمل بالتغيّر. أمّا القسوة، فلأنّ البطولة على هذا المسرح تتمثّل في القَتْل والهدْم. وأمّا الرّعب فلأنّ طرق القتل والهَدْم لا تميّز بين حدود " الثورة " وحدود " الجريمة "، ولأنّ الخطابَ الذي يرافق العملَ يتأصّل في مرجعيّةٍ هي نفسها المشكلة، سواءٌ كانت " قوميّة "، أو " دينيّة ": الأولى إقصائيّة حتى الاستبداديّة والاحتكاريّة، والثانية إقصائيّة، أيضاً، حتى التكفير والنّبذ.
قراءة حزب " البعث العربي " للواقع العربيّ، وبخاصّةٍ في العراق وسورية، قراءةٌ شبه دينيّة، تراثيّاً. وقد هَيْمنت حوالى نصف قرن. وقراءة المتديّنين لهذا الواقع، شبه بعثيّة، إيديولوجيّاً. الموجِّه المهيمِن يتمثّل في البنية العقلية الماضويّة، وهي في جوهرها، ذات طبيعة دينيّة.
الماضويّة هنا وهناك، في الحالين، أساس التفكير والعمل. والصراع الدائر اليوم هو في عمقه صراعٌ على السلطة، على تغيير السلطة، وليس على تغيير هذه العقليّة، أي على تغيير المجتمع ذاته ـ ثقافةً ومؤسّسات. لا النظام العربيّ القائم نظام مواطَنة، نظام مساواةٍ وعدالةٍ وحريّة، ولا الثورة عليه ثورةُ مواطَنَةٍ ومساواةٍ وعدالةٍ وحرّيّة، لأنها ثورةٌ تتكلّم، عمقيّاً، بلغة النّظام.
الثورة أفُقٌ آخر، لا يزالُ مغلَقاً أمام العرب. والعصر الذي نعيش فيه هو عصرُ ما مضى. ويبدو أنّ ثقافة هذا الماضي، ثقافتنا السائدة في بيوتنا وحياتنا اليوميّة، في مدارسنا وجامعاتنا، وفي مؤسّساتنا تعلّمنا أنّنا قومٌ لا نفكّر، بل
" يُفَكَّرُ " عنّا، ولا نتحرّك بل " نُحَرَّك "، ولا نبني، بل " نُبنى ".
بلى، الثورة أفقٌ آخر لا يزال مغلقاً أمام العرب. هل يفتحه ما يحدث الآن في تونس؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في مصر؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في اليمن وفي البحرين؟
وفي هذا المضمار، كان يمكن أن تكون سورية سبّاقة: أن تكون نموذجاً فريداً، ورائدة عظيمة.
//
(منقول من صفحة الدكتور رفيف المهنا )
لمشاهدة الموضوع الأصلي إضغط هنا
يكتب أدونيس
//
" الخراب ": تلك هي الكلمة الأكثر قدرةً على وصف الحالة الراهنة في العالم العربي. غير أنّه ليس " الخراب الجميل " الذي تمنّيتُه في قصيدة " مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف " في سنة 1971. ذلك أنّ هذا الخراب لا يؤسّس لتحرير
الإنسان من مختلف العبوديّات، وإنّما يغامر، على العكس، بالتأسيس لعبوديّاتٍ أخرى أشدّ هولاً.
إنّه خرابٌ يعلِّم الإنسانَ قتلَ الإنسان: قتله مباشرةً، أو بالتخطيط، أو بالشورى، أو بالديمقراطيّة، أو بالثورة، أو بالنظام.
ومن أجل تغطية هذا القتل بحرير الإيمان والطمأنينة، يتمّ تسييس الدين وتديينُ السياسة على نحوٍ قد لا نجد له مثيلاً في التاريخ كلِّه. تسييسٌ يمحو إنسانيّة الإنسان محوِّلاً إيّاه إلى مجرّد آلة، لا يفرِّق بين الفراشة والوحش، وتديينٌ لا يميِّز بين الإله والآلة. والنتيجة في الحالين تديينٌ للصراع ضدّ خصومٍ صاروا " أعداء "، وتديينٌ للفتك والقتل، وتديينٌ للنهب والسرقة، وتديينٌ لتهديم الأملاك وإحراق الشوارع والمؤسّسات والأوابد، وقصف الأبرياء المسالمين. إنه باختصار: تديينٌ للإبادة على جميع المستويات، وفي جميع الاتّجاهات.
إنها ديكارتيّة جديدة، وكوجيتو جديد:
" هل أنا مؤمن؟ إذاً، يجب أن أبيد من يخالفني ومن لا يحالفني، وأن أستأصل كلّ ما يمتّ إليه بأيّة صلة ".
......
مسرحٌ هي الحياة العربية، اليوم: " مسرحُ قَسْوةٍ " ورعبٍ في آن. بينهما فرَحٌ خفيفٌ وعابرٌ؛ فرحُ الأمل بالتغيّر. أمّا القسوة، فلأنّ البطولة على هذا المسرح تتمثّل في القَتْل والهدْم. وأمّا الرّعب فلأنّ طرق القتل والهَدْم لا تميّز بين حدود " الثورة " وحدود " الجريمة "، ولأنّ الخطابَ الذي يرافق العملَ يتأصّل في مرجعيّةٍ هي نفسها المشكلة، سواءٌ كانت " قوميّة "، أو " دينيّة ": الأولى إقصائيّة حتى الاستبداديّة والاحتكاريّة، والثانية إقصائيّة، أيضاً، حتى التكفير والنّبذ.
قراءة حزب " البعث العربي " للواقع العربيّ، وبخاصّةٍ في العراق وسورية، قراءةٌ شبه دينيّة، تراثيّاً. وقد هَيْمنت حوالى نصف قرن. وقراءة المتديّنين لهذا الواقع، شبه بعثيّة، إيديولوجيّاً. الموجِّه المهيمِن يتمثّل في البنية العقلية الماضويّة، وهي في جوهرها، ذات طبيعة دينيّة.
الماضويّة هنا وهناك، في الحالين، أساس التفكير والعمل. والصراع الدائر اليوم هو في عمقه صراعٌ على السلطة، على تغيير السلطة، وليس على تغيير هذه العقليّة، أي على تغيير المجتمع ذاته ـ ثقافةً ومؤسّسات. لا النظام العربيّ القائم نظام مواطَنة، نظام مساواةٍ وعدالةٍ وحريّة، ولا الثورة عليه ثورةُ مواطَنَةٍ ومساواةٍ وعدالةٍ وحرّيّة، لأنها ثورةٌ تتكلّم، عمقيّاً، بلغة النّظام.
الثورة أفُقٌ آخر، لا يزالُ مغلَقاً أمام العرب. والعصر الذي نعيش فيه هو عصرُ ما مضى. ويبدو أنّ ثقافة هذا الماضي، ثقافتنا السائدة في بيوتنا وحياتنا اليوميّة، في مدارسنا وجامعاتنا، وفي مؤسّساتنا تعلّمنا أنّنا قومٌ لا نفكّر، بل
" يُفَكَّرُ " عنّا، ولا نتحرّك بل " نُحَرَّك "، ولا نبني، بل " نُبنى ".
بلى، الثورة أفقٌ آخر لا يزال مغلقاً أمام العرب. هل يفتحه ما يحدث الآن في تونس؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في مصر؟ هل يفتحه ما يحدث الآن في اليمن وفي البحرين؟
وفي هذا المضمار، كان يمكن أن تكون سورية سبّاقة: أن تكون نموذجاً فريداً، ورائدة عظيمة.
//
(منقول من صفحة الدكتور رفيف المهنا )
المصدر: موقع ومنتديات المفتاح
l]hvhj H],kds
لمشاهدة الموضوع الأصلي إضغط هنا