الكاتب: صفوان محمود حنّوف
- نماذج من أعمال الكاتب
بطاقة تعريف الكاتب
-من مدينة حمص 1951.
-بكالوريوس العلوم الاقتصادية من جامعة حلب دورة 1981.
-يكتب المقالتين, الاقتصادية والأدبية. و نشرت مقالاته في الصحف والمجلات المحلية والعربية .
-حاز على الجوائز الأدبية التالية:
-الجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة, التي أعلن عنها المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في حمص عام 1996 عن قصته المرحوم.
-الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة التي أعلنت عنها دار البعث عام 1997 عن قصته السكّين.
-الجائزة الثالثة في مسابقة البحث الأدبي التي أعلن عنها اتحاد الكتّاب العرب في سوريا عام1997عن بحثه الأمثال الشعبية 00 ذاكرة و حكاية.
-الجائزة الأولى في مجال القصّة القصيرة من المسابقة الأدبية العربية التي أعلنت عنها دائرة الثقافة و الإعلام بحكومة الشارقة في دورتها الثانية عام 1998 عن مجموعته القصصية زمن الحرائق.
-صدرت له مجموعتان قصصيتان:
-1- زمن الحرائق .
-2- البيدق .
-و كتاب عن دار المعرفة في بيروت بعنوان: الاسم الربّاني و أثره في السلوك الإنساني.
نماذج من أعمال الكاتب
خيط الدم
السكين
دائرة الموت
اللوحة الأخيرة
جدران الصمت
قبلني
أنا وصديقي باش
رجل يخاف النوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
جدران الصمت
تفتّحت الحياة في صدرها المتلهّف ، وأفرد عمرها جناحيه للكلام ، لكن الكمان لا تصدر أصواتها دون وتر .
السّاعة تدق ، وقلبها يرفّ . يشتدّ خفقه عند الخامسة مساءَ كل يوم ، وتتّسع حدقته . تختلج ، تذوب في بعضها ، وداخل الزمان والمكان تطير في أبعاد لا نهائية . نشوةٌ حلوة جعلتها ريشة يحملها الأثير يوم رأته أوّل مرة ، يومها ولدت شجرةٌ باسقة .
السّاعة تمشي بصمت بينما تتسارع رفّات القلب ، وتتسارع أكثر حينما تراه ، فيهجرها النوم . تحسّ مع دقّات الساعة بالعطش ، فتخرج متلهفةً إلى الشرفة لتسقي الورد .
خرج للتّو. جلس على كرسيه في الشرفة الخالية إلا منه ، في بيته المقابل الذي سكنه مؤخراً، ويفصله عن بيتها شارع عريض ممتلئ بالدكاكين والسيارات العابرة ، ويتوسطه رصيف انتصبت فيه أعمدة النور .
بدأ يرتشف القهوة كعادته ، ويحدّق في أوراق غير عادية ، تشبه الخرائط كما كانت تظنها ، وكلما سنحت له الفرصة 000كان يختلس النظر إليها وهي تسقي ورودها المزروعة في أصص مصفوفة بشكل متناسق .
تساءل بينه وبين نفسه :
- " هل تفكر الصبيّة بما أفكرّ فيه ؟ وهل تقبلني بما أنا عليه ؟ . "
كانت تحدّق في وردة أطل منها قمرٌ يضيء ظلام الليل ، ورجولة تحيي ربيع القلب انساب الماء بارداً وممتزجاً بالتراب بين أصابع قدميها الحافيتين فارتعشت ، وتساءلت أيضاً :
-" كيف الوصول إلى تلك الشجرة ؟. "
جدار وهميّ ينصّف الشارع ، والمسافة شاسعة . كلاهما يحرص على دوام ذلك البعد بينهما وإن تلاقت النظرات صدفةً فإن الواحد منهما يشيح بوجهه عن الآخر عمود النّور بين الشرفتين داليةٌ يتدلّى منها فانوسٌ بلوري فراشتان تطيران على جانبي ضيائه الساطع الحار ، كل في مجالها ، فالكبرياء حاجز يمنعها أن تطير في مجال الأخرى ورْفّ عصافير يطير نهاراً بين الشرفتين جيئة وذهاباً ، دون أن يحط على إحداهما .
مرّت أيام قليلة 0 كانت في الشرفة ، أحست بسرور بالغ وهي تنهزم أمامه حين انفلتت من شفتيها ابتسامةٌ خفيفة سرعان ما ردّ عليها بشعور واضح بالثقة والنصر 0 00 بإيماءة من رأسه .
الفراشة تكفّ عن الطيران داخل نفسها بحثاً عن شيء وجدته في الأخرى فصارت تطير إليها أهو الحبّ ؟ ذلك الطفل الصغير الذي ظهر فجأةً واستأثر بالقلب والعقل ؟ .
يتغيّر الزمن لديه .
صارت تركض قبل الخامسة خلف فراشات تحلّق بين الأزهار داخل حديقة عينيه ، بينما يسير بين خصلات شعرها الفاحم ، حيناُ وفي دروب معبّدة في جسدها الممشوق أحياناً أخرى ، دون أن يقول كلمةً واحدة .
- "بدأتُ أستقبل الحياة 0 لابدّ أن كلاً منا قد خلق للآخر 0 أفتح جميع النوافذ ، وأشمّ عبق الحياة من الياسمين في شرفته ، ومن (الخميسة) التي لوّنت جدرانها بالأخضر ، ومن الورود في أصص وزّعها في شرفته بشكل لافت لنظري" .
كانت وحيدة في البيت ، تقف في مكان تراه منه أدارت قرص الهاتف : "أترى صوته يشبهه؟". ألحّ الجرس برنينه ، لكنه ظلّ يحدق في أوراقه أعادت المحاولة مرّات ومرّات في الأيام التالية ، وفي الظروف نفسها ، دون تغيير في موقفه . "يتجاهلني عن قصد" . دهمها شعورٌ بالمهانة ، فقررت أن تستردّ قلبها . لم تعد ترى إشارات يديه، وابتسامةً لازمت شفتيه ، حتى قمصانه الملونة التي صار يرتديها .
تضطرب الشرفة أمام جدار أعادت بناءه بينهما لم تُجْد الإشارات والابتسام نفعاً ، حتى بان عليه انتصارها ونفاذ صبره . وبعد أيام أجابته بالنفي عن سؤال وجّهه بيديه حول إذا ما كانت خاطبة .
رقصت غرفة الضيوف فرحاً ، فهي تستعدّ للقاءٍ بينه وبين أبيها الذي أخبرها عنه استقبلهما الأب ، هو- وفي يده صحيفة مطوية - ووجيهٌ من الحارة شفف المطبخ بها وضعت (ركوة) القهوة على نار مضطربة ، وكانت تسترق السّمع كلما استطاعت تملّكها شعورٌ غامرٌ بفرحٍ ينطلق من أعماقها 0 لبست (الطّرحة) ، رقصت وهو يخاصرها ، واكتحلت عيناها بالغوص في أعماق تلك الحديقة فتنهل من جمالها الأخّاذِ .قال لها كلمات " ليست كالكلمات " ، تأبّطت ذراعه ، ومالت على كتفه وهما يغادران الصالة إلى شهر العسل ردّ على المهنئين ، وهمس في أذنها كلاماً جعلها تحبه وتحب الحياة معه وهدهدت لطفل جميل ملأ البيت فرحاً وأملاً ، كان يغني لهما دائماً 000أجمل الأغنيات .
طافت (ركوة) القهوة ، قدمتها للضيوف . ودّعهما الأب وهو يرجو الله أن يقدم ما فيه الخير .
حكى الأب لها قصته كاملةً . باغتها أمرٌ لم تكن تعرفه عنه ، فهبّت ريح قوية نالت من قلبها وعقلها معاً ، ومن الحياة الباقية التي لم يمض منها غير تسعة عشر ربيعاً اضطربت رؤى التلهّف ، وخطرٌ غلّف الزمان والمكان 0 أعاد الأب القصّة ، ومع أنه ترك القرار كلّه لها ، فقد نبّه إلى تردده بالموافقة ، وناولها الصحيفة . قرأتها ، فتغيّر الزمن لديها .
القلب يرتعش أمام دقات الساعة ، ورودها بدأت بالذّبول ، وبدت الفراشتان مضطربتين حول عمود النور من جديد ، حتى العصافير في طيرانها .
قالت لها البصّارة :
- أمامك طريقان .
في أي منهما تسير والسّير في أيسرهما صعب ! ؟ لم يرحم الأب اضطرابها ، ولا الأقارب والصديقات بعد أن عرفوا قصّته كاملةً ! .. فتحت الصحيفة من جديد ، نظرت إلى صورته في إحدى صفحاتها وقرأت عناوين عريضةً تتقدم تحقيقاً صحفياً عنه .
- ( شابّ يعيد الحياة لمعمل كامل بخبرته الفريدة ) .
-(صاحب المعمل يلغي طلب استدعاء خبير أجنبي لإصلاح عطل معقد في إحدى ألاته) .
- ( ………) .
تضاءلت الفجوة بين الواقع والحلم . إنه يشارك في الحياة لا يتفرج عليها ، ازداد إعجابها به ، وانطلقت فرحةٌ من أعماقها ، فالحياة معه لن تكون سدىً . " سأكون سعيدة، سأكون معه خارج جدران الصمت " فقرّرت ، ولبّى عقلها وقلبها النداء .
- "أورقت الحياة طفلاً تحققت مع مناغاته كلّ أحلامي . لم يكن يغنّي له ، بل كان يداعبه كثيراً ، كثيراً جداً . أما أنا …فلم يقل لي كلمةً واحدة في حياته ، ولم يهمس في أذني مرّة .
اعتدت محادثته .. وأحببت لغته الجميلة التي يحادثني بها ، بالإشارات .. وبالعيون .. بأي طريقة .. إلا النطق" .
نيسان / 1995
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
قبِّلني
رغم الرّطوبةِ والعفونة ، ورغم رائحة البول النافذة ، وقف إلى أحد الجدران يرسم عليه وجه طفلٍ بقطعةٍ من الطّبشور وجدها مرميّةً إلى جانب بقايا شمعةٍ في ركنٍ من الزنزانة .
كان رجراجاً في وِقفته ، محكوماً بسطوة المكان. لكنه أكثر انسجاماً مع تعاقب الحياة بعد أن استعاد شيئاً من قوّتهِ وبدأ بالتكيّف مع ما هو عليه .
وهادئاً ... إلاّ من إحساسٍ ممزوجٍ بالغضبِ والقهرِ اللذيْن ينهشانِ من صدره .
وكانت الزنزانة مكاناً لا يعلم إلاّ الشيطان ما يدور فيه . ضيّقةَ الأفق ، تحتلّ مصطبةٌ طينيةٌ نصف مساحتها ، ويخترق شعاع ُ شمسٍ رفيعٍ فتحةً صغيرةً في سقفها فيبدّد قليلاً من ظلامها ، فإذا غاب تتخذ الظلمة أمام عينيه شكل دوائر هلامية تتداخل حينا إلى أن تتوحّد ، ثمّ تتباعد وتتناثر حتى تتجمّع من جديد .
وكان ذلك أهون عليه من رؤية السّجّان ذي الهيئة الغليظة ، الذي تدلُّ ملامحه القاسية على أن الشّفقة لم تدخل قلبه يوماً .. وأجمل من طريقةِ وضع الطعام والماء اللذيْن بدأ يحضرهما له صباحاً منذ أوّل الأمسِ حين أودِع الزنزانةَ فبدأت الحياةُ تفلت من يديه ثانيةً بعد ثانية ، ومن تعليقاته التي تجعل العرق السّامّ ينـزّ من مساماته فتأكل جسده .
طوال اليومينِ الماضيينِ كان يدور على غير هدىً ويقول للجدرانِ إنه بريء ، ويتساءل عن زوجته التي صرخت في قاعة المحكمة حين تصلّبَ كالحديدِ الساخنِ وهو يوضع في الماء الباردِ بين أيدي رجال الشرِطة ِ الذين اقتادوه إلى هذه الزنزانةِ بأنها ستثبت براءته. ذلك جعله فاقدَ القدرةِ على النوم، فإذا نام مرغماً فإنه يكون غير قادرٍ على الاستيقاظ .
والوقت لا يزال يمرُّ بطيئاً ، ويمتدّ في نفسه عذاباً أكثر وخزاً من أيّ شيء ، إذ تخيّل أكثر من مرّةٍ عدّة رصاصاتٍ تطرّز جسده أو حبلاً يلتفّ حول عنقه .
دخل السّجّان كعادته يحمل له الطعام والماء ، فراحت تغلي في نفسه خواطر محمومة ، وفي دماغه صورٌ مجنونةٌ جعلت ملامحه الرّقيقة لرؤيته أكثر عنفاً .
- تبدو هادئاً اليوم . قال السّجّانُ بغلظة ، وباللهجة نفسها أردف يقول :
- الأفضل أن تبقى كذلك دائماً .
أثارت هذه الكلمات في داخله زوبعةً وإعصاراً جعلاه يهمّ بالصّراخ، لكنّ رعباً خفيّاً أوقف الصّرخة في حلقه .
- أنا بريء . لستُ القاتل .
- هذا ما يقوله كلّ المجرمين .
نظر السّجّان إلى الصّورة فسأله :
- ما ذا ترسم ؟
- ابني الذي لم يولد بعد .
فقال السّجّان دون اكتراث :
- هل تدخّن ؟
وأخرج من جيب سترته علبة سجائره وعلبة كبريت وضعهما على المصطبة ، وهمّ بالخروج حين كان السّجين يسأله :
- هل تعرفُ متى وكيف ستكون نهايتي ؟
فردّ السّجّان بطريقةٍ لم تخلُ من بعضِ اللباقة والهدوء :
- اهتمّ بنفسك ، وكن شجاعاً دائماً .
- هل يمكن أن أطلب منك خدمة ؟
- اطلب ، ولكن دون أن أعدَك بشيء.
فقال :
-هل توجد طريقة لإحضار زوجتي ؟
لم يردّ السّجّان ، وانصرف مبتسماً بطريقةٍ هازئة .
بدأ الظلام يحتلّ الزنزانة ببطء ، في هذه الأثناء سمع وقعَ أقدامٍ غير معتاد ، نظر من شبك النافذة الحديديّ فرأى وجه ضابطٍ جاء لتفقده وجزءاً من وجه السّجّان ، ثم تواريا عن النافذة والضابط يهمس في أذن السّجّان كلاماً غير مسموع .
فوجئ مساءاً وهو يكمل رسم الصّورة على ضوء الشّمعةِ بصوت المفتاح يدور في القفل قبل أن يدخل السّجان وخلفه امرأةٌ شابّةٌ لم يخلُ وجهها من مسحةٍ من الجمال .
قال له السّجّان بصوتٍ خفيض :
- يمكنك أن تمضي ساعةً معها . ساعة واحدة، مفهوم ؟
ثمّ خرج .
نظر إليها مشدوهاً ، أما هي فقد كانت تنظر إليه بإشفاق .
كانت ترتدي ثوباً أبيض وتلفّ رأسها بشالٍ من اللون نفسه . ساد الصّمت بينهما لحظاتٍ طويلة قبل أن يشير إلى المصطبة ويدعوها للجلوس ، وبعد أن جلست رفعت الشّال عن رأسها ، وفاحت منها رائحة عطرٍ رخيصٍ تسللت إلى أنفه رغم الروائحِ المنتشرة .
كانت هذه المرأة مركباً صغيراً من المراكب التي أُفلت رباطها وضاع وسط بحرٍ تتقاذفه أمواج الرّذيلة .
- لماذا أنت هنا ؟ سألها ، فأجابت :
- أحضَروني إلى هنا لا أعرف لماذا . كنتُ في الشّارع .
- أقصد لماذا أنت هنا .. في زنزانتي ؟
فقالت :
- رئيسة سجن النساء طلبت مني أن أحضر مع سجّانك .
نظر إلى شعرها المنهمر على ثوبها الأبيض فبدا له مغرياً لأنه أكثر إظلاماً من الفضاء الذي يحيط به .
ناولها سيجارةًَ وهو يعتذر لها عن ضيافةٍ لا توجد لديه ليقدّمها إليها، أشعل عود ثقاب فبدا وجهها أكثر إشراقاً . ثمّ قال :
- ماذا يجبرك على المجيء ؟
- لم يجبرني أحد . تبرّعتُ من تلقاء خاطري.
- لماذا ؟
فتنهّدت وقالت وهي تمجُّ من السيجارة كما لو أنها كانت تجلس مع أحد زبائنها :
- لأنهم قتلوا حبيبي في السّجن دون أن أراه .
ساد الصمت من جديد ، ثمّ جلس إلى جانبها وسألها أن تحكي له قصّتها ، فمدّت يدها إلى الزّرّ العلويِّ لردائها وهي تقول :
- بدأ الوقت يمرّ .
لكنّه سرعان ما وضع يده على يدها ومنعها من ذلك .
فقالت وهي تخفض رأسها :
- الوقت يمرّ !...
وضع يده تحت ذقنها ورفع رأسها إلى الأعلى فرأى في وجهها عينين مغدورتين مظلومتين. وسألها من جديد :
- ما حكايتك ؟
فسألته قائلة :
- ما هو جرمُك ؟
فقال :
- أنا بريء . استنفدتُ كلّ ما لديّ من البراهين .
- ومحاميك ؟
- رمى آخر ورقة في يده ولم تثبت براءتي .
وتابع يقول بانكسار:
- كنت أرى في وجوه القضاة أنهم قرّروا مسبقاً أنني مجرم.
وأعاد سؤاله :
- وأنت ؟؟
نظرت إلى وجهه فرأت فيه عينين لامعتين منكسرتين، وقالت:
- ليس لديك الوقت الكافي .
ألحّ في الطلب ، فقالت :
- أحببتُ رجلاً وعدني بالزّواج ، فأخذ طهارتي ورماني .
- أتخافين الموت ؟
دهشت لسؤاله ، ظنّت أنه يعرف مصيره القادم بعد ساعات .
ومنعها ثانية من فكّ زرّها العلويّ ، فنهضت واتجهت صوب صورة الطفل ووقفت أمامها كتمثالٍ جميل ، راحت تتأمل الصورة ملياً قبل أن تسأله عنها ، فقال :
- إنها صورة ابني الذي لم يولد بعد . هل تقولين له يوماً إنني كنت بريئاً ؟
وضعت يديها على وجهها ، وبكت . فنهض إليها وأحاطها بساعديه فاستدارت إليه وأخبرته وهي تضع رأسها على صدره أنها أجهضت أوّل طفلٍ حَمَلتْه .
- أنتِ حلوة . خسارة أن يضيع جمالك وسط تلك الأمواج .
فقالت وهي تنشج في بكائها :
- كانت لديّ مُثُلٌ وأحلام ، لكنّها سُحقت جميعاً .
ضغط رأسها على صدره ، فسألته :
- هل أنت خائف ؟
- سأذكرك دائماً ، فلن تطول إقامتي هنا .
فبكت من جديد وهي تمدّ يدها إلى الزّرّ العلويّ في قميصه وتفتحه، ثمّ قالت :
- الوقت يمرّ بسرعة !..
ضغط بيده على يدها وأبقاها على صدره إذ أحسّ بدفءٍ لطيفٍ أنساه أكثر مما هو فيه ، ثمّ قال :
- أرجوك ، لا أريد أن أزرع بذرةً سيّئة .
ثمّ راح كلّ منهما يداعب بيده شعر الآخر ونظراته تتغلغل في وجهه ، وضمّها بعنفٍ إلى صدره ، وكذلك فعلت هي ، ثمّ أخذت رأسه بين يديها وقالت:
- إذاً قبّلني .
فنظر إلى وجهها مليّاً وراح يعبّه جرعةً جرعة ً خلال فترة صمتٍ طويلةٍ ما لبثت أن قطعتها خطوات السّجّان .
ت2/2000م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
أنا ... وصديقي بـــاش
آااااخ ........
فأسند ظهري إلى جذع كرزةٍ و أنظر إلى آخر المدى .
أقلّب أحلامي فلا أعثر على واحدٍ يرفرف بأجنحة من ضياء يملأ النفس نوراً ليطرب الفؤاد .
هكذا أمنياتي ..تتحوّل كلّها إلى هباءٍ تذروه الرّياح .
من بين برقٍ و رعدٍ تومض غيمة في مساء يجيء من طين حزين، تثقبه حبّات مطر تنهمر خفيفة من خلف ستائر السماء فتثير غباراً تفوح منه رائحة الأرض.
أودّع الأشجار في ثوبها الأخضر ، تلوّح لي شاكرةً كلّ قطرة من عرق الجبين سقيتها بها منذ زرعتها .
أجرّ جسداً ضعيفاً في طريقي إلى غرفتي الصغيرة قرب باب المزرعة ، ملأته القروح و استحكمت بهيكله الهزيل العلل ، لا أرى غير قدميّ الثقيلتين .
أتفقده في بيته الخشبي الصغير و لا أجده . لقد أحضرت له هذه المرّة وجبة دسمة أرسلتها له السيدة ، لا تزال بقايا لحم يشتاق إليه منذ مدّة عالقة عليها .
أرمي ما بيدي أمام بيته و أنادي :
- باش .. يا باش . .
أدخل غرفتي ، أغسل صحن عشاء الأمس لآكل فيه . ثمّ أسمع حركته ، فأخرج إليه ضاحكاً لأنني أعرف من أي مكان جاء .
كان قاعياً أمام بيته الذي تلفعه فيه شمس الصيف و يقرصه برد الشتاء ، يشمّ العظمة فيخيّل إليّ أنه سيخبئها إلى يوم أسود، و ما أكثر أيامنا السود معاً، لكنه يركلها غير عابئ بها.
إنه ليس جائعاً بالتأكيد ، فعدا عن جسدها .. فإن صديقته في المزرعة المجاورة تقدّم له كل ما تسرقه أو تصطاده.
أقرفص أمامه ، أمسح فوق رأسه و أمازحه :
- تبدو مسروراً يا باش ، يجب أن تجلد مائة جلدة .
يهرّ فيّ كأنه يضحك ، ثم يهز رأسه محولاً هريره إلى همهمة أفهم معناها . فهو مثلي ... لا يزال يهوي على ضفاف أحلام وصلت إلى مرافئ جريحة .
في هذه الأثناء كان ابنه الصغير في غرفة السيدة بعد أن خرج زوجها إلى سهراته الماجنة . إنه أحسن حالاً منه ، فهي تدلّله منذ طفولته و تحرص عليه ، تمشّطه و تغسله بالماء و الصابون ، و تطعمه لحماّ حقيقياً لقاء ما يقوم به من مهمّات خاصة درّبته على القيام بها .
هكذا كان الجدّ حتّى كبر فرمته السيدة في البيت الخشبي الصغير إلى أن قتله السيد حين لم يعد قادراً على القفز من سطح بنايةٍ إلى سطح بنايةٍ مجاورة.
كان باش يحفر باحثاً عن شيءٍ لا يجده ، وكان ينظر في الوقت نفسه إلى المزرعة المجاورة التي يسمع منها بين الحين والآخر نداءً لا أسمعه ، لكنه يجعلني أعرف ما يجول في خاطره ، فأقول له :
- إيّاك يا باش . إن من تعرفه أحسن ممن تتعرّف إليه . إذا ذهبت سيقول عنك السيد ما قاله عني يوماً، سيتّهمك بالخيانة .
يهرّ فيّ ثانيةً بطريقة مختلفة ، فأقول :
- معك حق . الجوع طريقٌ للرحيل .
يتحول هريره إلى نوعٍ من الزّمجرة ، أربت على رأسه و أدغدغ رقبته قائلاً :
- أعرف ... أعرف يا صديقي . لقد خدمتَه و كنتَ له مخلصاَ وفياَ ، وفي رفقته كنتَ عيناَ متربّصة ، ولم تتمسّح بجوخه يوماً .
ثمّ أردفُ قائلاً :
أما أنا... فتعرفُ أني كنتُ شريكاً له في أحزانه ومغتبطاً في أفراحه. ألا تذكر؟ وفي النهاية كما ترى .." العشا خبّيزة " ، أو بقايا من مائدته التي أترك لك ما فيها من عظامٍ إذا وُجد .
وأتابع قائلا :
- أقول لك سرّاً لا تعرفه ياباش ؟.. حين استولى على المزرعة كُنت على موعدٍ بأن نكون شركاء فيها ، حتى لو كان هو السيّد وأنا مجرّد عامل.
لقد قتلتُ نفسي منذ ثلاثين سنةً يا باش حين حوّلني إ لى مجرّد أجير لا يعرف ماذا عليه أن يفعل. لم أكن أطمح إلى شيء ، ولم تكن لديّ أحلام . لكن .. أكثر من مجرّد خادمٍ على كلّ حال .
يكاد باش يبكي لحالنا معاً ، فأخفّف عنه :
- اصبر ياباش . قدرُك أن تُسرع خلف قمامةٍ أنقلها من البيت آخر النهار لأرميها خارج المزرعة ، تحشر أنفك فيها باحثاً عن عُظيماتٍ أو عن علبةٍ من التَّنَك لا تزال رائحة لحمٍ تفوح منها . ولهذا تضطرّ للقيام بأعمالٍ إضافيةٍ، كأن تسرق عصفوراً رماه صيّاد أو تكمن لجرذٍ في مكانٍ ما .
يرنو إليّ بعينيه المستديرتين خلال فترة صمتٍ سادت بيننا ، يسحرني بريقهما الذي لا يخلو من بأسٍ ومراوغة . كان كأنّه يسألني عما أفكّر فيه هذه الأثناء.
- ليتك تفهمني يا باش. إنني أتسائل فعلاً : أيّنا هو الآخر ؟.
ثمّ يهدّني التعبُ ويخزُني النُّعاس ، فأنبّهه:
- كن يقظاً يا باش .. مزرعتنا صارت محفوفةً بالأفاعي والخناجر.
أدخل غرفتي معتمداً على مابقي لديه من الشّجاعة والذّكاء ، إذ لا تمرّ عليه حيل اللصوص السّود ، لكنّني خائفٌ عليه ، فهو لم يعد قادراً أيضاً على الهجوم وحده .
أخلع جزمتي ، أرمي جسدي المنهك فوق طرّاحةٍ مددتها على لوحٍ خشبيّ منذ ثلاثين سنةً أو ما يزيد .
وسط صرصرةٍ تنبعث من هنا ونقيقٍ يأتي من هناك.. أنام . أظنّني لم أغفُ تماماً ، فلقد كنتُ أسمع من وقتٍ لآخر عواء ذئبٍ بعيد.
يباغتني السيد بعد جهجهة الضّوء . أنهض واقفاً من أوّل ركلةٍ من رجله وهو يصرخ قاذفاً إيّاي بأقذع الشتائم المصحوبة برائحة خمرٍ نافذةٍ تفوح منه.
- إنهض أيّها العجوز المترهّل ..لا يكفيك نوم النّهار . بابُ الحظيرة مفتوحٌ وأنت تشخر .
ألبس حذائي - أو ما يمكن أن أسمّيه حذاءً - كيفما كان . أخرج مسرعاً باتّجاه الحظيرة تسبقني أقسى كلماته التي يذكّرني في بعضها بأنّ لحم كتفيّ الهزيلتين من خيره ، ويشير في بعضها الآخر إلى أنّ نهايتي في هذه المزرعة قد اقتربت بطريقةٍ أو بأخرى ، إذ قال لي أكثر من مرّة :
- ابحث لك عن مكانٍ يطعمك ويؤويك .
كان باب الحظيرة مفتوحاً فعلاً ، ربما نسيتُ أن أتفقّده بسبب التعب و النعاس ، أو بسبب أشياء أخرى. أما الحظيرةُ فقد كانت قائمةً وقاعدة . أجول بعينيّ بحثاً عن باش ولا أجده, بل أرى في الأرض بقعاً من دمٍ متخثّر .
أغلق الباب و أخرج متلفّعاً بتقريع السيّد الذي يتبعني مترنّحاً . ثمّ يلتقط السيّد حجراً ويقذف به جسداً يصرخ من عمق أعماقه إذ يصطدم الحجر به . إنه صوت باش . أركض متتبعاً استغاثاتٍ يطلقها آهاتٍ مجروحة .
بين العشب كان جسده متوحّلاً، وكان وجهه ملطّخاً بالدّماء , وكذلك كانت مخالبه ، وإلى جانبه يرقد ذئبٌ ضخمٌ لفظ أنفاسه .
أساعده على النّهوض، أبحث عن السيّد ليكافئ البطل الذي ظنّه السيّدُ نائماً . لعلّ السيّد قد دخل غرفته إذ أرى الكلب الصّغير يخرج منها بعد أن أمضى فيها ليلةً لزجة .
- أصيل يا باش .
أقرفص أمامه وأضمّه . أخلع قميصي الدّاخليّ الوسخ وأضمّد جراحه . تتحرّك عواطف أحدنا نحو الآخر ، وتتمايل تأثّراته مجسّمةً نظراته كلاماً متعارفاً بين البشر ، وأنظر إليه لأجد في عينيه الذّليلتين دمعةً حرّى .
لا تنظر إليّ هكذا يا باش .
يزمجر غاضباً ، فأحاول تهدئته :
يكفيك أنك لا تلعق اليدين اللتين تضغطان حول عنقك .
ينظر إلى المزرعة المجاورة ليرى صديقته اللطيفة إلى جانب سيّدها وهو يمسك بفرخٍ من السّمك يلوّح له به .
- تماسك يا باش . لا يغريك أنّ ذلك السيّد كان يرمي لزميلك قبل أن يُقتل في ظروفٍ غامضةٍ رأس دجاجةٍ كاملاً ، أو قطعةً من لحمٍ يكاد أن يفسد. إيّاك يا باش.. " زيوان بلدك ولا قمح الغريب".
يشيح بوجهه عن السّمكة أكثر من مرّة ، يتردّد، ينظر إلى الأرض التي يقف عليها تارةً ، و أحياناً إلى السّمكة .
ثمّ يجهش ببكاءٍ مرٍّ وهو ينظر إلى الأرض للمرّة الأخيرة . أرجوه وهو يهرول باتجاه السّمكة :
- لا تتركني يا باش !..
ثمّ أصرخ و أنا أزرّر حذائي ناظراً إلى الأشجار:
- اصبر يا بااااش ...." زيوان بلدك ولا قمح الغريب يا باااااااااش" .
لكن الجوع كان أكبر من كلماتي .
آب 1999م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رجــلٌ يخــافُ النــوم
1- ريــاحٌ ونبيــذ:
كان القمر متوارياً خلف سحب داكنة ، تتلاعب بها ريح قوية جعلت مدرّس التاريخ يضع بطانية على ظهره وهو يجلس وحيداً إلى طاولته أمام نافذة غرفته الضيّقة التي تئنّ معه بديمومة الخوف 0
وكان – وهو يرشف من كأس نبيذ – يقرأ إحدى الأساطير من كتاب قديم ، حيث وقفت
" هيرا " زوجة الإله " زيوس " - في إحدى صفحاته الأولى – تعطي أمرها للتيتان ليقتلوا زوجها مدفوعة بغيرتها 0
رفع المدرّس رأسه ببطء ، والتفت إلى صورة معلّقة على أحد جدران الغرفة لا يزال يحتفظ بها بسبب ذكريات جميلة لا ينكرها 0
راح يتأمل نفسه وهو يخاصر زوجته الكلثومية الخدين وهي تقف مبتسمة في ثوب زفافها الأبيض الذي استعارته يوم الزفاف من إحدى صديقاتها
رشف رشفتين متقاربتين قال بينهما والقهر ينزّ من عينيه :
-خائنة 0
بعد صفحات 0000 وكان قد أحسّ بحاجته إلى النوم ، عرف أن " زيوس " كان مظلوماً ، وأن عليه أن يفعل شيئاً ما 000 ليبقى على قيد الحياة ، وأن هناك من يساعده على ذلك ، خاصة حين وصل في قراءته إلى صفحة مطلعها :
-انهض 0000 انهض يازيوس 0
وكان لابدّ من النبيذ ، لأنه يشعره بدوار يسهّل تسلّل النوم إلى نفسه 0
بعد أن شرب أكثر من نصف الزجاجة 000 نفر القلق من مساماته وعرّش على قسمات وجهه ، لأنه رجل يخاف النوم لأنه يغلبه محمّلاً بكوابيس تعاوده كلما أوى إلى فراشه فتريه أشباحاً مختلفة تطارده وتحاول التخلص منه 0
هناك كائن مجهول يقودها لم يعلن عن نفسه بعد ، لا بكلمة أو إشارة 0
لابدّ أنه موجود في مكان ما في البيت ، فوق السقف أو تحت الأرض ، وربما خلف أحد الجدران ،وحين يظهر له ينشر في نفسه خوفاً يجعله يحسّ بالخجل من نفسه عندما يفيق
بعدما جرع ثمالة الكأس أحسّ بدوارٍ عنيف ، فاتّكأ على الكتاب وأطرق برأسه فوق زنده 0
2- قبعة ونظّارة سوداوان
سرعان ما رأى نفسه طفلاً شمّر ساقي بنطاله في يوم حارّ إلى ركبتيه وهو يلج ماء البحر حيث تتلاشى مويجاته الهادئة عند قدميه 0
من الطرف المقابل رأى " بابا نويل " يتقافز فوق صفحة الماء باتجاهه ، وكان هذا يضع على رأسه قبعةً سوداء غير لباسه العادي ، وعلى عينيه نظارةً سوداء أيضاً ، لكنها كبيرة كالقناع تغطي نصف ملامحه ، ولما وصل إليه أخرج من كيسه علبةً لفّت بشريط أحمر ، ناوله إياها واختفى دون أن ينبس بكلمة واحدة 0
فتح الطفل العلبة فانفجرت في وجهه قنبلة شوّهته ، وجعلت الطفل يصرخ بأعلى صوته :
-أمي 000 يا أمي 000
فهرعت إليه سيدة عجوز ضمّته إلى صدرها وهي تبسمل وتحوقل 0
نظر إليها وقال :
-المرحومة الحاجّة خديجة !! 0000
3- المرحومة الحاجّة خديجة:
في ليلة عاصفة ، وكان طفلاً لم يبلغ الحُلم بعد ، استيقظ على طرق قوي على باب الدار التي يسكنها مع أبيه وحيدين ، ليرى أباه مذعوراً 000 مرتبكاً ، يبحث عن مكان يختبئ فيه قبل أن ينفتح الباب عنوةً ويداهم الدار عدة رجال ملثمين متنكبين بنادقهم ويحملون الهراوات ، وعلى رأسهم رجل يضع نظارة كبيرة على وجهه تغطي نصف ملامحه 0
من فتحة ثوبه جرّوا أباه حافي القدمين كالكلب إلى سيارة تقف خارجاً ، وكان صامتاً من شدة الرعب 0
بعد أن انطلقت السيارة خرجت الحاجّة خديجة من بيتها ونادته بعد أن كانت تراقب ما يجري من فرجة الباب0
أدخلته بيتها المؤلف من غرفة صغيرة أمضيا فيه عدة سنوات معاً ، كانت الحاجة خديجة خلالها أمّاً عرف منها تاريخ أسرته 0
4- على شاطئ البحر:
سألته المرحومة الحاجّة خديجة بلهفة عمّا به ، فأحاطها من شدة خوفه بذراعيه ، وسألها عن أمه :
-أين أمي يا خالة ؟؟
فوضعت رأسه على صدرها وقالت :
-ألم أخبرك يا ولدي إنها ماتت يوم ولدتك في الزريبة ؟
هزّ رأسه وقال :
-في الزّريبة يا أمي ؟!00 ضاقت بك الدنيا فلم تجدي مكاناً غيرها تسقطينني فيه ؟
فقالت المرحومة :
-" يا عيني عليها " لقد فرّت إليها من أزيز الطائرات ورعب الحرب ، أصيبت يومها بنزيف حادّ حرمها لارؤيتك فقط ، بل حياتها أيضاً 0
وتابعت تقول وهي تنشج :
-لم تضمّك إلى صدرها كباقي الأمهات 0
ثم سألته :
-ألم يُفرجوا عن أبيك ؟
فقال باكياً :
-يوم رأيتِه كان آخر يوم أراه فيه 0
ثم تابع يحادث نفسه :
-في الزّريبة يا أمي ! 000
ذكّرته المرحومة بما قالته له سابقاً قائلةً :
-المجرمون 0 قالوا انه عدوّ لهم ، وصادروا أرضه وداره 0
-00000
ثم أردفت تسأله :
-وماذا فعلت بعدي يا ولدي ؟
فتنهّد وقال :
-ماذا أحكي لك يا خالة ؟! 0000
5- ماسح أحذية في كاراج الباصات:
بمجرد موت الحاجّة خديجة طرده أقاربها من البيت وأسلموه إلى زمن أسود 0
كان كاراج الباصات في المدينة ملجأه ومورد رزقه ، لكنه أفنى فيه أعزّ سنوات صباه وهو يكابد الشجون والعذاب ، لكن كل ذلك لم يفقده عشقه للقمر والقراءة حين يجد وقتاً لها ، خاصةً قراءة التاريخ الذي صار مولعاً به ، والذي كان يخصص جزءاً من الليرات التي يدّخرها من مسح الأحذية ليشتري كتبه ، بل انه بعد سنوات كان قد ادّخر مبلغاً من المال مكّنه من استئجار غرفة في حيّ شعبيّ ، وراح يعدّ العدّة لدراسة التاريخ دون أن يترك مهنته والكاراج الذي استهلك عشر سنوات من عمره إلى أن تعرّف إلى لبنى 0
6- لبنــى:
ذات ليلة صافية ينيرها القمر البدر ، رأى في الزحام صبيّة تكبره ببضع سنوات ترتدي لباساً يوحي بالفقر ، شغلته حيرتها واضطرابها فلم ينتبه إلى جمالها ولا إلى وجهها الطفوليّ وخديها الكلثوميّين ، وكان من الصعب أن يرى ما يخفيه وجهها هذا 0
أثارت فيه الشفقة ، فاقترب منها وسألها عن حاجتها ، فأخبرته بأنها تريد السفر إلى أي مكان هرباً من سكين أخيها 0
بعد أيام قليلة صارت تشاركه الرغيف والسرير بعد أن عقد عليها ، ومع الأيام صارت محبو بته لحرصها على سعادته وراحته ودراسته الجامعية
لكنها سرعان ما تغيرت وبان وجهها الشرير بسبب فقره ، كان يحتمل منها كل ذلك إلى أن رأى كلباً ينام في فراشه إلى جانبها ، فطلقها 0
7- القبّعـة والنظّـارة :
سمع صوت حذاء ثقيل يشي بخطوات متوعّدة يعرفها جيداً ، ثم ظهر ذو القبعة السوداء والنظارة إياها كالثور ، وسأله :
- لازلت هنا ؟
-0000 !!
راح الثور يقلب الحقائق فاتهمه بأنه إرهابي وبأنه يزوّر التاريخ 000
سأله المدرّس عما يريد ، فردّ الثور قائلاً :
-الأرض والماء والهواء 0
كانت الريح في الخارج تحرّك المحارات الساكنة في أعماقه ، وتبذر في نفسه بذرة من الرجولة والإرادة الحقيقيتين ، وبعدما أنتشت ذلك كله راحت تستنهضه 0
انقضّ مدرّس التاريخ عليه ودارت بينهما معركة غير متكافئة جعلت الثور يفرّ منه ، فلحق به ، ظلّ يهرول خلفه ليجهز عليه ، لكن المسافة بينهما بدأت تزيد وتزيد حتى اختفى الثور عن ناظريه 0
8- الزجـاجة والكتـاب :
الزجاجة تملي عليه أن يمسك بها ويضرب الصورة المعلقة على الجدار ، لكنه لا يفعل ، لأن رأسه يثقل على الكتاب هامداً ساكناً كصخرة
كان المدرّس ميتاً ، ولبنى تنظر إليه مبتســمة 0
لمشاهدة الموضوع الأصلي إضغط هنا
المصدر: RSS الحوت السوري
wt,hk lpl,] pk~,t>>>lk Hulhg hg;hjf: - []vhk hgwlj rf~Agkd v[JJgR doJJhtE hgkJJ,l